الحضارة البشرية هي نتيجة لتراكم المعارف من خلال سلسلة إستغرقت من الإنسان آلاف السنين من التجارب والممارسات والخبرات والفشل والنجاح , تلك السلسلة التي أوصلت الإنسان إلى ما نحن عليه الآن ...وقد ساعد على هذا التميّز المعرفي للإنسان دون سائر الكائنات " طفرة الوعي" المتمثـّلة في تطور دماغه الكمّي والمعرفي بعد نمو قشرة جديدة فيه على اللب القديم والذي كان سبباً في زيادة حجمه وسعته ومن ثم كفائته , فتفوق الإنسان بفضل تلك القشرة الجديده على ما سواه من الكائنات .... ....
عندما نستعرض التاريخ الإنساني من خلال مفهوم الحضارة نرى بأن ذلك الإنسان قد مرّ بمراحل تطوريّه عديده , فبعد أن كان لاقط للثمارإبتكر وسائل للصيد فأصبح صياد ومن ثم إكتشف طريقة لتدجين المواشي والإستفادة منها وأخيراً عرف كيف يُنبت الثمار والمحاصيل من خلال إكتشافه لوسائل الزراعه , ما أدى إلى إستوطانه الأراضي الخصبه وإستقراره فيها ماديّاً ونفسيّاً وإجتماعيّاً فتهذّبت أخلاقه الوحشية وتمدّنت طبائعه البدائية فنشأت جماعات صغيرة ما لبثت أن أصبحت مجتمعات كبيره تحكم سلوكياتها أخلاق وعادات إتـّفقوا عليها بدافع المصلحة العامه فأصبحت فيما بعد قوانين مقدّسه .
إذن فالحضارات لا تنتهي بإنتهاء أشخاصها ولا تغيب بغياب مجتمعاتها بل تتوارثها الأجيال وتضيف عليها ما يوائمها وتنزع عنها ما لا يلائمها وتستمر الحضارة الفكريه والثقافيه والمعرفيه في دورتها الحتميه وتطورها المستمر .
ولكن عندما تأتي الأديان وتفرض علينا مفاهيمها الخاصة بخصوص نقض المرحليّة الزمنيّه التطوريّه عند الإنسان في خلق الحضارات , فتشطب ذلك التواتر الزمني المعرفي الإنساني وتختزله وتختصره بمفهوم لا يحاكي المنطق ولا يوافق العلم الحديث فإننا نرفضه جملةً وتفصيلا كونه ينقض المعروف علميّاً ويناقض المألوف منطقيّاً .
تقول الأديان أن أصل الإنسان هو آدم الذي خلقه الله من تراب ومن ثم أنجب له من أضلاعه زوجه حواء , فأنجبت له هابيل وقابيل , وأن عمر آدم عشرة آلاف سنه فقط لا غير !!! .....
هكذا تسرد لنا الأديان مسألة أصل الإنسان , ولكن الحاضر بعلومه ومعلوماته المتحرره من التابو الديني قد كشفت كذب وزيف تلك الدعوى الدينيه , فعدا كون الإنسان لا يحتوي على مادة السيليكون التي هي من مركبات التراب , وعدا حقائق تشابه كرموسومات الإنسان مع الشمبانزي ,وعدا الإكتشافات الأثريّه التي أثبتت بأن أصل الإنسان موجود منذ أربعة ملايين عام , فإن تلك الفرضيّة الدينيه قد أوقعت نفسها في مأزق لا خروج لها منه ....
لقد صوّرت لنا تلك الفرضيّة الدينيه أن آدم قد خـُلِق وهو يعرف الكلام والصفات وكان عاقلاً حكيماً وقد أنجب من الأولاد هايبل وقابيل , فكان هابيل راعي للماشية وأما قابيل فهو زرّاع يزرع الثمار , بمعنى أن أصل الإنسان كان عاقلاً يتكلم خبيراً بتدجين الحيوان والزراعه , وعليه فالمنطق والعقل يقولان أن من جاء بعدهم من أولادهم لابد وأن يأخذ منهم بالضرورة جميع تلك الخبرات والمعلومات المعرفيّه وقد يطوّر عليها ويحسّن منها , فهل تم ذلك الأمر في ذريّة المزارعين و أرباب المواشي قابيل وهابيل ؟
بالطبع لا ...لايمكن قبول فرضية تقوم بالقفز على تاريخ الحوادث , فالإنسان ومنذ نشوء جنسه ما قبل اربعة ملايين عام كان أقرب للحيوان منه للإنسان الحديث , وقد أدى تطوره البيلوجي والفسيلوجي إلى نشوء وعي عنده ساعده في الإرتقاء عن بقية الحيوانات من خلال ممارساته الأوليّه في سبيل تطوير نفسه وقد أخذت منه تلك الآليّة مئات الآلاف من السنين من التطورالمرحلي ... ففي سكان أستراليا البدائيون خير مثال على زيف تلك الفرضيّة الدينيه التي تقول بأن الإنسان خـُلق وهو في كامل جهوزيته العقليّه المعرفيّه , حيث أن تلك الأقوام- وإلى عهدٍ قريب- لا تعرف تربية الحيوانات ولا تعرف الزراعه وغذائها كل شيئ يتحرك على الأرض من حشرات وزواحف وخفافيش وحيوانات إلخ ...وهي لا تعرف الله ولم تسمع به ويحكمهم مجلس كهول العشيرة من خلال عادات قديمة وثقافه بدائيّة ترجع لآلاف السنين ...وأما رسومهم فهي تشرح عقيدتهم الطوطميّه ...ولا يجب أن نغفل بأن هناك أقوام في أفريقيا والأمازون يحملون نفس صفات حياة سكان أستراليا الأصليين .
كما لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون جميع تلك الأجناس المختلفة البشرة واللأعراق والثقافات قد جائت من مصدر واحد عمره عشرة آلاف سنة فقط , والحقيقة التي عجزت عن إستيعابها الأديان أن تلك الإختلافات فيما بين البشر من ناحية الشكل الخارجي للجسد والمضمون الثقافي المعرفي قديمة جداً وترجع لأسباب بيلوجية وفسيلوجية وتراكمات معرفيّة أخذت من الإنسان الأوّل مئات آلاف السنين ليصل إلى إنسان العصر الحديث .
العلوم المختّصه عندما أرادت من خلال وسائلها المعرفيّه المتعددّه أن تـدلي بدلوها في هذه المسألة سرعان ما أنكشفت عورات الأديان وتبدّت سوءاتها وراح أتباعها يخصفون على عورات أديانهم ما تيّسر لهم من خداعٍ وكذب وتزييف وتلاعب , ولكن العلم لا يزال يبرهن وبكفائةٍ لا نظير لها على أنه المنتصردوماً في معركته ضد خرافات الأولين .
المحصله هي أن مسألة أصل البشر ( آدم) شأنها شأن تلك الظواهر الطبيعية التي عجز عن فك طلاسمها إنسان الماضي , فأراح فضوله وأرضى غروره وتمادى على جهله وأعزى الأمر كلّه للقابع وراء السماء ( الله) ........أراح نفسه وأتعب من جاء بعده .
الرئيسية 
