كنت في يوم من أيامي الخوالي أقود سيارتي متجهاً إلى أحدى الدوائر الحكوميه لتخليص بعض المعاملات المهمّه ..فتحت مذياع السياره أستعين به على وعثاء الطريق وعرقلة الإزدحامات ...تصفـّحت الموجات علّني أعثر على موضوع شيّق أو أغنيه أتسلّى بها ...كانت المحطات الإذاعيه والغنائيه كثيره وتزخر بكل فن , ما جعلني أحتار ماذا أختار , وعلى أيّ محطه أستقرّ ..وفي أثناء تلك الحيره المملّه والتنقـّل المتواتر بين المحطات وإذا بلحنٍ لأغنيه وقد نفذ إلى قلبي كالسهم فأستقرّ به فتمكّن .
لقد أبهرتني تلك الأغنيه بكامل أركانها الثلاثه ....
اللحن كأنه ترانيم وأهازيج كواعب السماء , به سحرٌ للـّب وأسرٌ للقلب ,يراقص الفؤاد كنسيم الليل النديّ ..يشفي أوجاع المُهج ويعزي النفس من لواعجها , ويرطّب حرّ الجوى ويُلهم المحب وصال حبيبه ...
وأما الشـِعر فهو كما السحر .. يجري في الروح مجرى النهر العذب المعطّر برائحة الورود والرياحين يسيل في الوديان المقفره الموحشه فيحييها ويزيّنها ويسعدها ويهذبها , ليغشى حزنها ويجلي همـّها ...
وأما الغناء فكأنما الطبيعه منحت صوت ذلك المغني أسرار الإبداع ومفاتيح الأنغام ومزامير السماء وملكوت الإستحواذ وهِبة التمكّن ....فجائت تلك البدعـةُ السنيـّةُ وافية الأركان ثلاثية الأقانيم معجزة التكوين متكاملة الأطراف مكمّلة لبعضها , لا يستقيم أحداها بعـِوج الأخر .
لم أتمالك نفسي فأنحرفت بالسياره إلى أقرب حانوت يبيع الغناء معلباً بأشرطه ..أشتريت شريط أغنيتي وأنا في غاية الإفتتان والبهجه الروحيه , ورحت أنهل من معين ألحانها ليل نهار حتى بلغت مني مبلغ القداسه , فأصبح كاتبها وملحنّها ومغنيها عندي من العظماء المعصومين لا أسمح أن يُمسّ أياً منهم , وكيف لا ,وهم من أبدعوا تلك المعجزه الفارقه .
توالت الأيام والشهور وأنا غارق في هيام أغنيتي المقدّسه وإعجابي بها يتفاقم ويزداد , فآمنت عن يقين لا ريب فيه أنها الأغنيه الخالده والتي لن يجود الزمان بمثلها أبدا ...وأن جميع الأغاني عداها هي هراء وخواء وطنطنات وترهات ..
إلى أن أتى يوم لم أكن أنتظره , ولم أحسب له أدنى حساب ...ذلك اليوم الذي إهتزّ فيه كياني وتزعزعت منه ثقتي وأستدار به رأسي , فتضائلت في نفسي معاني القيم , ومزاعم الفضيله , ودعوى الأخلاق ومفاهيم الصدق والأمانه والحقيقه , وأصبحت كلها عندي مرادفات للكذب والتدليس والسرقه والخداع والخيانه ...
كل هذا حدث لي في ذلك اليوم الفارق ...حدث لي عندما أسمعْتُ صديقي أغنيتي المعجزه ...ورحت أعيد وأعيد وأزيد بولهٍ وهيام وآهاتٍ لا تنقطع.. ومفردات التفخيم تخرج مني لا أرادياً أثر الإفتتان والإعجاب ...ورحت بعدها أطنب بالمديح وأسهب بالثناء على أركان الأغنيه وأقانيمها الثلاثه و أنجازهم الخارق وبدعتهم الخالده .
وإذا بذلك الصديق يصمت لوهله , لينفجر بعدها بنوبه هيستيريه من الضحك فأختلطت دموعه بماء أنفه وراح يسعل حتى كاد أن يموت , ما أثار حفيظتي وحنقي , وأستشاط بي غيضي وغضبي , فأنتفخت إثرها أوداجي و هممت أن ألطمه على وجهه كي يتوقف ...ولكنني كظمت غيضي و فضّلت العتاب اللفظي السلمي عن العتاب الجسدي .
قلت له : ياهذا ماذا ألمّ بك ..أما تستحي من نفسك ...إنما ضحكك الجنوني هذا يوحي بأنك تـُسفـّهني وتستهزئ بي بإستخفاف ٍممجوج لا أقبله منك , وعليك بالإعتذار عن سوء صنيعك معي وإلا هو الفراق ...
رد عليّ صديقي - بعد أن هدأت نوبته- بالإعتذار الشديد مُبدياً أسفه بحجّة عدم تمكنه من السيطره على نفسه , وأن سبب تلك النوبه الهيستيريه من الضحك لم يكن القصد منها الإساءه إلى شخصي , إنما كان سببها هو طريقتي المسرفه في غلوائي الناتج عن إفتتاني وأنبهاري , ومبالغتي الطاغيه في مشاعري وأحاسيسي , و تفريطي الغير منطقي في وقتي ,والذي أضعته في ما لا يستحق ...لسببٍ واحد _غاب عنّي أنا فقط _ وهو أن تلك الأغنيه المعجزه المزعومه ماهي إلاّ أغنيه قديمه جداً مسجّله على أسطوانه قديمه جداً , وأن ما أحسبه إعجازاً ماهو إلاّ إجترار وإرتجاع للماضي بأسلوب تجديدي عصري , وبأدوات وآلات وتقنيات حديثه تتماشى مع الرتم الغنائي المعاصر .
هالني الأمر وراعني ....فتداخل الشك في قلبي , ما جعلني أرفض وأرتاب في كل ماقال ... وأتهمته بأنه جاهل لا يفقه الفن , وأنه مدّعي ومدلّس وكاذب ..
ردّ علي بهدوء وقال : حسناً ..سوف أبعث لك بالإسطوانه فهي موجوده داخل خزانة جدّي ....فقلت له : هات ماعندك لأكشف به زيف دعواك .
ترددت في البدايه ...ولكنني عزمت أمري على معرفة الحقيقه حتى لو كانت مـُرّه ومؤلمه ....وبالفعل إستمعت إلى الأسطوانه وإذا بها نفس الأغنيه ...نفس اللحن..نفس الكلام...كان اللحن مهلهلاً , والآلات مترهلّة الأوتار, والصوت أجشّ مهترئ ... ولكنها هي الأغنيه .....وامصيبتاه ....وا فجيعتاه ...واخيبتاه ..
أخذت الشريط وانهلت عليه تكسيراً وركلاً وضرباً في نوبه شديده من الغضب الهيستيري والحسره المؤلمه على مالي الذي أهدرته , ووقتي الذي أضعته , والأهم من ذلك وتلك ,هو في الوهم الزائف والسراب اللامتناهي الذي كنت أعيش فيه ومن خلاله والذي كان يزيّن لي الرذائل على أنها الفضائل ..ويسوّق لي الفاسد بقالب الصالح ....ويبيعني الوهم في سوق العدم ....
كرهت الفن وأحتقرت أهله ...وهجرت مجالسهم ومنتدياتهم ...هم حفنه من سرّاق التاريخ .. ذلك التاريخ المزيّف المنتهي الصلاحيه ...هو معروض للبيع دائماً وبلا ثمن.......كل ّ من هبّ ودبّ جاء فأشترى منه جزء ليؤسس عليه قاعدة إنطلاق وهميّه لخوارج النفس المريضه فيضلّ بها الضالّين ويزيد وهم الواهمين.... زبائنه أخطر من الوباء إذا إستشري ...فالوباء وقتي ...أما وبائهم فهو دائم لا ينتهي .
ولكني كعادة الأريب ...تُقـوّيه المحن والمصائب فيخرج منها شديد العزيمه ...نافذ البصيره...مُتأني الحكم....سليم القرار...سديد الرأي.......باحث عن الحقيقه .....لا يتوقف عن التفكير إلا عندما يتوقف نبضه .
الرئيسية 
